الديمقراطية لا تليق بنا!

المسألة مربكة ومحرجة ومؤلمة في الوقت نفسه. منذ أن حدث الذي حدث في تونس بداية عام 2011، والبعض بدأ يتحاشى قدر الإمكان وصفه بالثورة أو تراه يبحث له عن كلمة أخرى، وما …



الديمقراطية لا تليق بنا!

 

المسألة مربكة ومحرجة ومؤلمة في الوقت نفسه. منذ أن حدث الذي حدث في تونس بداية عام 2011، والبعض بدأ يتحاشى قدر الإمكان وصفه بالثورة أو تراه يبحث له عن كلمة أخرى، وما أعقبه خاصة في مصر وليبيا، والناس تتابع بقلق شديد التحول العسير لهذه الأقطار من نظام استبدادي، بدرجات متفاوتة في القسوة والفساد، إلى نظام ديمقراطي يلبي طموحات الذين خرجوا إلى الشوارع منادين بالحرية ولا شيء غير ذلك. لكن ما يحدث الآن في معظم هذه الدول أن حكامها الجدد يأخذونها تدريجيا، عمليا أو عن سبق إصرار لا يهم، إلى نوع جديد من الاستبداد حتى وإن وجد ركيزته في ما أفرزته صناديق الاقتراع من نتائج علينا أن نوطّـن النفوس على القبول بأحكامها والسعي إلى التغيير من خلالها في المستقبل.

 

بوضوح أكبر، هل يمكن لأنظمة الحكم الجديدة في تونس ومصر وليبيا أن تقود شعوبها التواقة إلى الحرية والمعاصرة والعيش الكريم بهذه المرجعيات الدينية التي ترفعها بأشكال مختلفة؟!

 

للأسف الشديد لا… بل إنه كلما تقدمت ما يفترض أنها مرحلة انتقال ديمقراطي يتضح أكثر أننا نسلك يوما بعد يوم الطريق الخطأ الذي سيقودنا على الأغلب إلى طريق زراعي كثير الحفر والغبار والمطبات وليس إلى طريق سريع معبد يؤدي إلى دولة مؤسسات وحكم رشيد.

 

صحيح أن في هذه الدول من يمقت الإسلاميين ولا يقبل على الإطلاق بما يفعلون، حتى وإن كان سليما، ولا همّ لهم سوى تصيّـد عثراتهم وتضخيمها وتشويه أي شيء يتعلق بهم، ولكن في المقابل لا مفر من الإقرار كذلك أنه خارج هؤلاء توجد شرائح عديدة لا يرون في نظام حكم يقول إنه إسلامي، أو يوصف كذلك، نظاما ديمقراطيا عصريا قادرا على ضمان الحريات للجميع ولا يمارس الوصاية على أفكارهم ومعتقداتهم بل يسمح للجميع بالتحرك في فضاء المواطنة الضامن للمساواة بين كل أبناء الوطن بعيدا عن ممارسات أدمنت تصنيف الناس بين الصالح والطالح وبين ‘المؤمن’ و’الكافر’ مصادرين حق المولى عز وجل في محاسبة عباده يوم يقوم الحساب.

 

الأنكى أن ما يجري في مصر وتونس وليبيا أدى في النهاية وبدرجات متفاوتة إلى اصطفاف موضوعي، وحتى تحالف، بين القوى الديمقراطية والليبرالية التواقة إلى أنظمة حكم متحررة من عبء الإيديولوجية ووصفات التقوى الجاهزة من ناحية، وبين فلول الأنظمة السابقة وأيتامها الذين تحول كثير منهم بقدرة قادر إلى غيورين على قيم الحرية والحداثة من ناحية أخرى . هذا التلاقي يسيء إلى الأوائل ويغفر للآخرين. والذريعة هي محاربة الإسلاميين الذين يتحمل كثير منهم المسؤولية الأكبر في جعل السخط على سياساتهم يجمع من لا يفترض أن لا شيء يجمعهم.

 

المفارقة أن كثيرا ممن جاؤوا إلى تونس وليبيا مثلا بعد سقوط بن علي والقذافي قدموا إليها من دول غربية عريقة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، مهما قيل من دعاية سمجة، ولذا كان يفترض بهم أن يسيروا بدولهم ولو تدريجيا نحو نظام ديمقراطي عصري كذلك الذي تنعموا بظلاله الوفيرة لسنوات، لا أن يعودوا إلى دفاتر قديمة صفراء ينفضون عنها الغبار بما سمح في النهاية ببروز تيارات دينية أكثر منهم تشددا وغلوا.

 

لقد كانت أنظمة تونس ومصر وليبيا كاتمة على أنفاس الناس حد الاختناق ولكن ما ينتظر هذه الدول، إذا ما دانت الأمور إلى الحركات الدينية المتشددة بأجنداتها الموغلة في التحكم في رقاب الناس وضمائرهم، هو أن تحــنّ أعداد متزايدة إلى ما كنا عليه من قبل بعد أن ‘جاءت الحزينة تفرح ما لقتش لها مطرح’ كما يقول المصريون!!. أحد اللبنانيين الظرفاء صرخ في بعض من كانوا يخوضون في هذه الهموم والهواجس ‘يا عمي ما أدراكم… لعل الديمقراطية لا تليق بنا’!!

 

بقلم محمد كريشان (القدس العربي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.