وكل قادم ينبري فينادي: « مِنِّي تَـكْـرَعْ».
مربي الدّواجن يَستأتذ، ومعاطن الابل تتفندق، والبغاث في البلاقع يَستَـنسر.
وبداية المخطط لدى كل دعيّ : نسف الآثار لما تبقّى من قيَم، والقاء القاب الرجعية والتّخلف والتّعصب والبله والتّقليد والجمود… على كلّ علَم من الأعلام التي حرّرت العقول وأنارت البصائر ردحا من القرون يهزؤون بهم، ويتنكّرون لهم وينكرون، حتى أنّهم ليقذفون في النفوس البريئة عُقدا ومركّبات فإذا هي مذبذة: ان ثبّتت قدمها على الأصول الصلبة اتّهمت بالغباوة والتّخلف، وإن حاولت طيرانا مع القافزين تلاعبت بها العواصف، وربما ألقت بها في جب سحيق.
وليس انتشار هذه الظاهرة مقصورا على ميدان، كالسياسة والإقتصاد مثلا، أو على قطاع كالتعليم، او التطبيب … ولكنها آفة تستشري في أي مظهر من مظاهر التعايش بين البشر.
ولعل حدوثها في ميدان القيم والعقائد، والدّين في مجموع مشمولاته، لعلّه هنا نذير الطامة الكبرى، وسوء المنقلب، والعياذ بالله .
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد . ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم، فضلّوا وأضلوا» (حديث صحيح)
وتستوقف الفكر في هذا الحديث الشريف عبر جليلة متعددة، نتريث لحظات عند بعض منها:
لا شكّ أن من علامات الاقتراب من النهاية، وحلول الافلاس: تقلّص آثار العلم، والانتكاس في مساحق الجهالة، فيخبوسلطان العقل، ويفشو الدّجل والشّعوذة (باسم التّقدم أحيانا، وباسم التفتح والالهام أحيانا أخرى، وباسم الرجوع إلى الأصل تارة، وباسم الاقتداء بالمتحررين أطوارا…)
ومن حكم الله البالغة في العلم أنه لا يورث. فإمّا أن يسعى إليه كل فرد بنفسه ويكتسب منه ما تؤهله له همته (وكذلك وبالخصوص محيطه )، وإلّا فالجهالة والحيوانية.
معنى هذا إذن أن الله لا يقبض العلم ولا يرفعه ولا ينتزعه، وإنّما الأفراد والشعوب هم الذين يقضون على أنفسهم بالجهالة إن حنُّوا إليها أو عجزوا عن تحمل أمانة العلم .
والله تعالى حين يقبض العلماء لا يتعجّلهم ولا يؤجّلهم، وإنّما هي آجالهم، كمجموع مخلوقات الله، تحضرهم فتلفهم وتطوي صفحاتهم.
والعالم الحق يحيا عالما عاملا، ويموت مجاهدا . و«العالم» المزيف قابع، تملّه الحياة فيملها، فإذا به من الذين يتعجلون آجالهم، وكثيرا ما يموتون قبل أن يقبضوا. وذلك حين يرون فلا يبصرون، وحين يخرسون، ويتزملون، ويضعون أصابعهم في آذانهم…
و «الرؤوس» رؤوس الشّؤم والضلالة والجهالة والعمى، من أين تأتي وكيف تندس، ومن الذي ينصبها للافتاء والامامة؟
محمود الشبعان