عندما‭ ‬تنسلخ‭ ‬أمة‭ ‬عن‭ ‬قيمها،‭ ‬وعندما‭ ‬تتجافى‭ ‬عن‭ ‬أصالتها‭ ‬يكثر‭ ‬فيها‭ ‬الادعياء‭ ‬والمتزعمون‭‬

mahmoud-chebaane

وكل‭ ‬قادم‭ ‬ينبري‭ ‬فينادي‭: ‬‮«‬‭ ‬مِنِّي‭ ‬تَـكْـرَعْ‮»‬‭.‬

مربي‭ ‬الدّواجن‭ ‬يَستأتذ،‭ ‬ومعاطن‭ ‬الابل‭ ‬تتفندق،‭ ‬والبغاث‭ ‬في‭ ‬البلاقع‭ ‬يَستَـنسر‭.‬

وبداية‭ ‬المخطط‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬دعيّ‭ : ‬نسف‭ ‬الآثار‭ ‬لما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬قيَم،‭ ‬والقاء‭ ‬القاب‭ ‬الرجعية‭ ‬والتّخلف‭ ‬والتّعصب‭ ‬والبله‭ ‬والتّقليد‭ ‬والجمود‭… ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬علَم‭ ‬من‭ ‬الأعلام‭ ‬التي‭ ‬حرّرت‭ ‬العقول‭ ‬وأنارت‭ ‬البصائر‭ ‬ردحا‭ ‬من‭ ‬القرون‭ ‬يهزؤون‭ ‬بهم،‭ ‬ويتنكّرون‭ ‬لهم‭ ‬وينكرون،‭ ‬حتى‭ ‬أنّهم‭ ‬ليقذفون‭ ‬في‭ ‬النفوس‭ ‬البريئة‭ ‬عُقدا‭ ‬ومركّبات‭ ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬مذبذة‭: ‬ان‭ ‬ثبّتت‭ ‬قدمها‭ ‬على‭ ‬الأصول‭ ‬الصلبة‭ ‬اتّهمت‭ ‬بالغباوة‭ ‬والتّخلف،‭ ‬وإن‭ ‬حاولت‭ ‬طيرانا‭ ‬مع‭ ‬القافزين‭ ‬تلاعبت‭ ‬بها‭ ‬العواصف،‭ ‬وربما‭ ‬ألقت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬جب‭ ‬سحيق‭.‬

وليس‭ ‬انتشار‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬مقصورا‭ ‬على‭ ‬ميدان،‭ ‬كالسياسة‭ ‬والإقتصاد‭ ‬مثلا،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬كالتعليم،‭ ‬او‭ ‬التطبيب‭ … ‬ولكنها‭ ‬آفة‭ ‬تستشري‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬البشر‭.‬

ولعل‭ ‬حدوثها‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القيم‭ ‬والعقائد،‭ ‬والدّين‭ ‬في‭ ‬مجموع‭ ‬مشمولاته،‭ ‬لعلّه‭ ‬هنا‭ ‬نذير‭ ‬الطامة‭ ‬الكبرى،‭ ‬وسوء‭ ‬المنقلب،‭ ‬والعياذ‭ ‬بالله‭ .‬

قال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلّى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلّم‭ : ‬‮«‬‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يقبض‭ ‬العلم‭ ‬انتزاعا‭ ‬ينتزعه‭ ‬من‭ ‬العباد‭ . ‬ولكن‭ ‬يقبض‭ ‬العلم‭ ‬بقبض‭ ‬العلماء‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يُبق‭ ‬عالما‭ ‬اتخذ‭ ‬الناس‭ ‬رؤوسا،‭ ‬فسُئلوا‭ ‬فأفتَوا‭ ‬بغير‭ ‬علم،‭ ‬فضلّوا‭ ‬وأضلوا‮»‬‭ (‬حديث‭ ‬صحيح‭)‬

وتستوقف‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬الشريف‭ ‬عبر‭ ‬جليلة‭ ‬متعددة،‭ ‬نتريث‭ ‬لحظات‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬منها‭:‬
لا‭ ‬شكّ‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬النهاية،‭ ‬وحلول‭ ‬الافلاس‭: ‬تقلّص‭ ‬آثار‭ ‬العلم،‭ ‬والانتكاس‭ ‬في‭ ‬مساحق‭ ‬الجهالة،‭ ‬فيخبوسلطان‭ ‬العقل،‭ ‬ويفشو‭ ‬الدّجل‭ ‬والشّعوذة‭ (‬باسم‭ ‬التّقدم‭ ‬أحيانا،‭ ‬وباسم‭ ‬التفتح‭ ‬والالهام‭ ‬أحيانا‭ ‬أخرى،‭ ‬وباسم‭ ‬الرجوع‭ ‬إلى‭ ‬الأصل‭ ‬تارة،‭ ‬وباسم‭ ‬الاقتداء‭ ‬بالمتحررين‭ ‬أطوارا‭…)‬

ومن‭ ‬حكم‭ ‬الله‭ ‬البالغة‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يورث‭. ‬فإمّا‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬بنفسه‭ ‬ويكتسب‭ ‬منه‭ ‬ما‭ ‬تؤهله‭ ‬له‭ ‬همته‭ (‬وكذلك‭ ‬وبالخصوص‭ ‬محيطه‭ )‬،‭ ‬وإلّا‭ ‬فالجهالة‭ ‬والحيوانية‭.‬

معنى‭ ‬هذا‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يقبض‭ ‬العلم‭ ‬ولا‭ ‬يرفعه‭ ‬ولا‭ ‬ينتزعه،‭ ‬وإنّما‭ ‬الأفراد‭ ‬والشعوب‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يقضون‭ ‬على‭ ‬أنفسهم‭ ‬بالجهالة‭ ‬إن‭ ‬حنُّوا‭ ‬إليها‭ ‬أو‭ ‬عجزوا‭ ‬عن‭ ‬تحمل‭ ‬أمانة‭ ‬العلم‭ .‬

والله‭ ‬تعالى‭ ‬حين‭ ‬يقبض‭ ‬العلماء‭ ‬لا‭ ‬يتعجّلهم‭ ‬ولا‭ ‬يؤجّلهم،‭ ‬وإنّما‭ ‬هي‭ ‬آجالهم،‭ ‬كمجموع‭ ‬مخلوقات‭ ‬الله،‭ ‬تحضرهم‭ ‬فتلفهم‭ ‬وتطوي‭ ‬صفحاتهم‭.‬

والعالم‭ ‬الحق‭ ‬يحيا‭ ‬عالما‭ ‬عاملا،‭ ‬ويموت‭ ‬مجاهدا‭ . ‬و«العالم‮»‬‭ ‬المزيف‭ ‬قابع،‭ ‬تملّه‭ ‬الحياة‭ ‬فيملها،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يتعجلون‭ ‬آجالهم،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬يموتون‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يقبضوا‭. ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬يرون‭ ‬فلا‭ ‬يبصرون،‭ ‬وحين‭ ‬يخرسون،‭ ‬ويتزملون،‭ ‬ويضعون‭ ‬أصابعهم‭ ‬في‭ ‬آذانهم‭…‬

 

و‭ ‬‮«‬الرؤوس‮»‬‭ ‬رؤوس‭ ‬الشّؤم‭ ‬والضلالة‭ ‬والجهالة‭ ‬والعمى،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬تأتي‭ ‬وكيف‭ ‬تندس،‭ ‬ومن‭ ‬الذي‭ ‬ينصبها‭ ‬للافتاء‭ ‬والامامة؟

محمود الشبعان

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.