بحثا عن رمزية للثورة التونسية ولأبطالها الكبار

خلق وابتكار الرمزية التاريخية لحدث ما يمكن أن يرشح هذا الحدث ويجذره ويزيده ارتباطا بالناس ..مثلما فعل اليهود بعيد الحرب العالمية الثانية حين انبروا مباشرة بعد الحرب إلى إقامة سلسلة رمزية اكتسحت كل المساحات المادية والذهنية في …



بحثا عن رمزية للثورة التونسية ولأبطالها الكبار

 

خلق وابتكار الرمزية التاريخية لحدث ما يمكن أن يرشح هذا الحدث ويجذره ويزيده ارتباطا بالناس ..مثلما فعل اليهود بعيد الحرب العالمية الثانية حين انبروا مباشرة بعد الحرب إلى إقامة سلسلة رمزية اكتسحت كل المساحات المادية والذهنية في أوروبا الغربية وأمريكا متفننة بإقامة شعائر تمجيد وتقديس   "الهولوكست".

فلا يمكن لأي كائن بشري اليوم في الغرب أن يفلت من متحف للصور هنا ومن محلات اعتقال هناك أو من شريط سينمائي أو كتاب أو بحث أو جمعية أو حائط مبكى يحتفل ويذكر بالهولوكست في كل لحظة. حتى في واشنطن مثلا هناك مقام أعد على أساس تجميع صور وأغراض موتى من الهولوكست وتعداد أسمائهم وحفرها على الرخام…

وعندنا في تونس عمد نظام بورقيبة منذ فجر الاستقلال إلى الاستحواذ الكامل على الذاكرة الوطنية ليطوعها لأمجاد المجاهد الأكبر ومنع بالتالي تكون ذاكرة مستقلة عن السلطة بل وجعل من كل ما يتعلق بتاريخ الحبيب بورقيبة المصدر الوحيد والأساسي لايكونوغرافيا النظام جميعه.ولكن هذا الاستحواذ والاستعمال المفرط نفر التونسيين من هذه الذاكرة إلى حد نبذها …وعندما وصل زين العابدين بن علي إلى الحكم اتبع هذا المسار وعمد هو الآخر إلى جريمة قتل الأب مستحوذا على جثة بورقيبة وجبته وأحذيته في جالطا ومستنبطا إكسسوارات لونية فجة وطقوس جديدة أراد لها هو الآخر السيطرة على الذاكرة الجماعية وعلى المخزون الرمزي الوطني …لكنه لم يفلح مثلما لم يفلح سلفه في جعل الرمزية الثقافية تلتقي مع رمزية سيادة وطنية كانت في أساسها مفقودة..

قال الفنان الشعبي لمين النهدي لابنه المخرج محمد علي النهدي ذات يوم وهو يراه محتفلا رافعا العلم التونسي أمام المنزل :" ماذا؟ أتريد أن ينعت الناس بيتنا بأنه شعبة؟ "… وهذه ليست مجرد فذلكة وإنما هي تلخيص لمرحلة وصلناها جميعا في تونس أصبحت فيها الرموز الوطنية ورموز السيادة لا تربطنا بها أية رابطة إلا رابطة الحقد على النظام الذي استحوذ على ألوان الذاكرة وما فيها . وخوفا من البطش كنا نحولها إلى مناطق النسيان أو التقية فلا أحد يعلق العلم ولا أحد ينشد النشيد الوطني ولا أحد يتغزل بحب تونس …حتى الأغاني الوطنية كما كانت تسمى لم تكن تتغنى بالوطن بل بالنظام كوطن فوق وقبل الوطن…

ولهذا خال بعضنا يوم 14 جانفي أن هذه الثورة العظيمة التي اقتلعت الطاغية البنفسجية قد جاءت من عدم وبالمفاجئات السعيدة. وقيل ما قيل عن عفويتها وعن عدم ارتباطها بأي شخص وبأي شيء …هكذا لأننا تعودنا في هذا البلد أن لا ننظر خلفنا البتة. تعودنا مثلما علمنا بورقيبة وبعده بن علي أن ننكر فضل آبائنا ونحرق قبورهم ونمسح آثارهم من جدران المدينة وكما يقول مثلنا الركيك"إحنا أولاد اليوم"… وهكذا ظننا أن ثورتنا قد ولدت دون مقدمات عدا انتحار البوعزيزي ثأرا لكرامته المهانة…

ونسينا أو تناسينا أن هذا البلد لم يتوقف منذ 1955 وإلى جانفي 2011 عن إنجاب الشهداء والمناضلين والأبطال… والشهيدات والمناضلات والبطلات من أول مناضلي الحركة اليوسفية الذين ماتوا برصاص النظام البورقيبي  وفي سجونه في 1955  إلى البوعزيزي وآخر إخوته وأخواته الذين ماتوا برصاص النظام أيضا في 2011…

ثورة 14 جانفي, أو ثورة 17 ديسمبر كما طفق البعض بتسميتها دلالة على عدم انسجام الدلالات الرمزية في أذهاننا , هذه الثورة هي ثورة كل التونسيين الذين ناضلوا يوما ضد الدكتاتورية بأي شكل من الأشكال . هذه  الثورة بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى وأكثر مما نتصور إلى إنتاج تعبيراتها الثقافية وتفعيل رمزياتها المختلفة.

هذه الثورة بحاجة إلى أيقوناتها إلى أغانيها وأفلامها إلى شعرها ومسرحياتها. وإن لم يفلح الكثير من فنانينا في الالتحام بالثورة واستيراد زخمها المعنوي في إنتاجات تتماهى ونضالات التونسيين والتونسيات اليومية فمرد ذلك أولا للقمع الذي مورس منذ 55 عاما على الإبداع في هذه البلاد وثانيا على الاكتساح الواسع للوسائل الاتصالية الجديدة لمساحات التعبير اليومي بما لايمكن الإبداع الفني إلا من المتابعة التي لا تفي أحيانا بما تحلم به النفس   …

الثورة محتاجة اليوم  إلى أشياء عابرة قد لا تشد  ولكنها تعبر مثل هذه المجموعة من علب قذائف الرصاص المسيل للدموع التي استعملها الأمن التونسي والتي جمعها المناضلون في سيدي بوزيد وفي غيرها… هذه الثورة محتاجة إلى تسجيلات الفيديو وصفحات الفايس بوك وصور المظاهرات والتسجيلات الصوتية والبصرية ليالي لجان الأحياء ولأيام إضراب أعوان البلدية ومظاهرة البوليس لأول مرة في تونس..

كتب المؤرخ والباحث التونسي محمد الصغير عميرة منذ مدة مقالا اقترح فيه تحويل  مبنى وزارة الداخلية  الحالي إلى متحف للنضال الوطني… المقترح مر دون مناقشة ولكنه حقيقة يستحق الدرس احتفاء بالنضال الوطني ضد بورقيبة وضد بن علي وتحويل قبو وزارة الداخلية الذي ذاق فيه عشرات ومئات  الآلاف من المناضلين كل أنواع التعذيب والإهانة  إلى أحد الرموز الكبرى للنضال من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية في تونس…الأمر لا يتطلب الكثير من الجهد فيكفي أن نعلق على حيطان لتك البناية صور وأسماء المناضلين والمناضلات الذين مروا بين مكاتبها وعذبوا وضربوا وصلبوا وأحرقت أيديهم وأعضاءهم التناسلية وأهدرت كرامتهم وهم معلقون في وضعية "الدجاجة المصلية" لساعات بين المحققين الذين يتندرون عليهم … وهذا يدخل بالضبط في مسار الرمزية التي نحكي عنها والتي نحن بحاجة إليها جميعا لندرك من حي التضامن إلى شوارع تالة أو أزقة المتلوي أو في أي مكان آخر في تونس أن الثورة والحرية مسار طويل وطويل وباهض الثمن للشعب جميعا وأن ليس لأحد بعد الآن أن يتملك صورة للوطن رسماها جميعا بماء المآقي ودم الجراح…

علي العيدي بن منصور

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.