غرباء في شارع بورقيبة

من الجمعة 14 جانفي 2011 إلى الاثنيْن 14 جانفي 2013، يكون قد مرّ عامان على سقوط رأس النظام في تونس. ليست التواريخُ تعنيني في هذا المقام، ولا حديث البدايات من أربي الآن، …



غرباء في شارع بورقيبة

 

من الجمعة 14 جانفي 2011 إلى الاثنيْن 14 جانفي 2013، يكون قد مرّ عامان على سقوط رأس النظام في تونس. ليست التواريخُ تعنيني في هذا المقام، ولا حديث البدايات من أربي الآن، فثورات الشعوب ليست نقطة في الزمان تمتدّ على شهر أو عام أو أعوام تنقص أو تزيد.. ما يعنيني الآن هو مآلات تلك الإشراقة العابرة في ظهيرة جمعة غائمة من شهر جانفي 2011.. يومها كانت الأجساد متراصّة والحناجر متصادية في صوت واحد وأهازيج واحدة على طول شارع بورقيبة وأمام وزارة الداخليّة. أجساد وأفئدة لا تشغلها مقتضيات "الثورة" و"الانتقال" و"ما بعد الثورة"، ولا أسئلة من قبيل لمَ وكيف وبمَ. ما كان يشغل تلك الجموع هو شيء واحد: زوال الغمّة.. ورحيل الطغمة الفاسدة. يومها صاحت الجموع بصوت واحد: خبز وماء وبن علي لا. ويومها كان صديقي منصف الوهايبي يتمرّن على كتابة يوم الجمعة، ليصمت كلّ شيء هناك، تلك الجمعة !!

 

أمّا النخب السياسيّة الظاهرة منها والمتوارية فكان لكلّ منها قراءتها الخاصّة. وكلّ جنى ثمرة ما قرأ. فيهم من آمن بانتقال سلس ومرن من النظام القديم إلى نظام جديد، ومن آمن بالذهاب إلى انتخابات رئاسيّة فتشريعيّة تقود المرحلة الانتقاليّة. وفيهم من آمن بمجلس تأسيسي يبني جمهوريّة ثانية. وفيهم من آمن بحكومة ثوريّة تقطع جذريّا مع العهد السابق ورموزه. وفيهم من كان، بحذر، يراقب الحراك عن بعد، ولا يتورّط في موقف أو رأي..

 

اليومَ، عادت الجموع على آثارها الأولى نحو الشارع الكبير. منهم من تمترس بالساعة الكبيرة، ومنهم من لاذ بواجهة المسرح البلدي. منهم من اتّخذ من تمثال ابن خلدون متّكأ، ومنهم من جاء من نهج مختار عطيّة، ومنهم من ألقت به ساحة محمّد علي.. الجميع كان على موعد عمره عامان.

 

شعوبا وقبائل جئنا – كالمكرهين – إلى موعدنا القديم. تغيّرت الدنيا وتغيّر الناس. هذا من الثوّار الدائمين، وذاك من الفلول والأزلام. هذا من مناضلي الأوقات الصعبة، وذاك من مناضلي الوقت الضائع. هذا من ميليشيات النهضة، وذاك من جنود الصحوة. هذا من الورعين المتوضّئين وذاك من النجسين المشركين. هذا من المعارضين الشرسين وذاك من الانتهازيّين والمنافقين. هذا من خَدَمِ الحاكمين وذاك من الرعيّة والمحكومين.

 

على أصداء بعيدة لنشيد "الغرباء" نستذكر أهازيجنا القديمة منذ عاميْن، ونستذكر نشيدنا الوطني، ونستذكر سماء الشارع الطويل وقد غطّتها الرايات الحمر والبيض ولافتات "ديقااااج". تحت السماء ذاتها نلتقي، اليوم، براياتنا الحمر والبيض والسود والزرق أيضا. راية النجمة والهلال ورايات العقاب والخلافة الراشدة والحمامة الطائرة.

بعد عاميْن نلتقي في الشارع نفسه لقاء الغرباء. نلتقي، وقد أنكر كلّ منّا صاحبه، وتناءت بيننا الدروب والسبل، وباعدت بيننا الآمال والأوهام والسيماء والأسماء.

 

حولان مرّا على تلك الجمعة الغائمة من شهر جانفي 2011. وحولان مرّا على "ثورة" لا تريد أن تنفطم. مازالت تحنّ إلى رحمها الأوّل، إلى زمن كانت فيه نطفة أو فكرة، بذرة أو كلمة، حنينا جارفا أو جنينا حالما.

نلتقي في الشارع الطويل ولا نتبيّن أصواتنا ولا وجوهنا ولا راياتنا. شيءٌ ما سقط في صدورنا. صِرنا غرباء تحت سماء هذا الوطن!

 

بقلم مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.