صوتي أبيض لأن لا أحد يستحقه !..

election-3

1- لماذا لن أنتخب المنصف المرزوقي؟

من الأفضل أن يطرح السؤال بشكل معاكس: ما الّذي فعله المرزوقي كي يستحقّ أن يبقى رئيسا؟؟
جاء السيّد محمّد المنصف المرزوقي إلى الرئاسة مقتطفا ثمرة تحالف، كان وعد من قيل أن لا يحصل، مع حركة النهضة. جاء بثوب الحقوقيّ المناضل ضدّ النظام السابق، وتعهّد بإعادة حقوق الشهداء وبتحصين الثورة ضدّ عودة الأزلام وطلب بمحاسبته بعد شهور ستّة، إضافة إلى كمّ من الوعود الشعبوية إلى حدّ فجّ (بيع القصور الرئاسية، التخفيض من راتب رئيس الجمهوريّة،…) فكان أن بقي ثلاث سنوات لم تعد فيها حقوق الشهداء ولا حصّنت الثورة، بل ساهم هو نفسه في عدم تحصينها عبر تعيين عضو مجلس المستشارين السابق محافظا للبنك المركزي. في مجال صلاحياته، الدبلوماسية والدفاع، قطعت العلاقات مع سوريا بشكل متسرّع وافتعلت الأزمات مع الجزائر، وعاث الإرهاب في البلاد فسادا أمام أعين الجيش الوطني…في عهد الرئيس الحقوقي، سُلّم البغدادي المحمودي إلى دولة هي أضعف من أن تحمي وزراءها، فكيف بسجنائها، دون أن يفعل شيئا يذكر. وعلى المستوى الرمزي، أراد أن يلوح بمظهر الرئيس القريب إلى شعبه فكان أكبر إنجاز له في ذلك نزع ربطة العنق !وأصبح قصر قرطاج مرتعا لدعاة الإرهاب والمنحرفين. أحاط نفسه ببطانة لم تنقطع عن إثارة السخريّة بتصريحاتها غير المدروسة، وإن أضفنا إليها الزلّات العديدة للرئيس ذاته (الّتي قد لا يكون أحدها خطيرا، ولكنّ تراكمها يدلّ على عجز تواصلي فادح) وأضرّ ذلك كلّه بمصداقيّة مؤسّسة الرئاسة.
يقول هو وأنصاره أنّه لم يتركوه يعمل، ويبرّرون ذلك بمؤامرات خيالية ومحاولات انقلاب وهميّة لا تكشف إلّا عن شخصيّة دون كيشوتيّة. وتلك حجّة العاجزين. ما أفهمه أنّ من جاء ببرنامج فعليه أن يسعى لتنفيذه أو أن يرحل إذا لم يقدر على ذلك. وإذا افترضنا جدلا أنّ ذلك صحيح، فما منعه أن يستقيل إن كان غير قادر على تحقيق ما جاء لأجله؟ ما منعه مثلا أن يستقيل إن كان المحمودي سلّم رغما عن إرادته؟ هي شهوة الحكم ولا شكّ، وذلك غير مستغرب من شخص كان أوّل تصريح له عندما وطئت قدماه أرض البلاد، التي كانت يومها على شفا جرف هار، أن أعلن ترشّحه للرئاسة ! وإذا كان لم يقدر على تنفيذ ما وعد به في ظلّ أغلبيّة برلمانية داعمة له، فهل يقدر على ذلك في غياب مثل هذه الأغلبية، كما هو الحال الآن؟؟
يقولون أنّه ضدّ منظومة الفساد. ولا فساد في رأيي أخطر من إراقة ماء الوجه في سبيل منصب، مهما كان هذا المنصب. لا أدري أيّ أخلاق يمكن أن تبيح ذلك، حدّ وصف الخصم بـ”الطاغوت”، تزلّفا إلى من يستعملون هذه الكلمة، وهو العلماني العريق ! جاء المرزوقي إلى الرئاسة نتيجة لصفقة. وهو الآن يريد تمديد أجل الصفقة. هو يعلم أنّه أضعف من أن ينجح بفضل وزنه الجماهيري، ولذلك فـهو راض تماما بلعب دور الدمية للحزب الّذي أوصله إلى الحكم، مقابل أن يعيروه أصوات بعض مئات الآلاف من الأنصار! وأفهم أن يسانده النهضاويون وأشباه النهضاوين طمعا في تعويض خسارة التشريعيّة بفوز حليفهم “المضمون” في الرئاسيّة (وإن كانوا لا يملكون الضمانات الكافية لعجزهم في السنوات الخمس المقبلة عن التهديد بعزله)، أمّا أن يسانده شخص خلاهم وخلا بقيّة هزيلة من حزبه السابق وأشتاته المتمسّكين عن عناد بزعيمهم التاريخي، فذلك ما لا يمكن أن أفهمه.

2- لماذا لن أنتخب الباجي قائد السبسي؟
يشيع أنصاره عنه أسطورة رجل الدولة وخليفة بورقيبة وخصوصا الرجل الأقدر على الوقوف في وجه النهضة. أمّا عن رجل الدولة، فغير منكور، ولكن أيّ دولة؟؟ ما كان قطّ جزءا من دولة شعبها يتنفّس هواء الحريّة. ولا يمكن أن أقتنع أنّ مدير أمن ووزير داخليّة في الستّينات كان بعيدا عن الممارسات القمعيّة. أمّا عن بورقيبة، فما أراه تحدّث عن إرثه إلّا عندما أصبح يبحث عن رأس مال سياسي يزعم انتسابه له (كما فعل غيره ممّن يزعمون “الدستوريّة” اليوم) وما علمت أنّه حاول زيارته يوما أو حتّى مشى في جنازته. قبل 2011، لم يكن بورقيبة بالنسبة إليه إلا حديث خرافة يستعمله لتأليف الكتب واستجلاب الأحاديث الصحفية. أمّا عن الوقوف ضدّ النهضة، فقد ثبتت أسطوريّة هذا الطرح مؤخّرا، إذ لم يجد الرجل حرجا، في حوار على موجات إحدى الإذاعات قُبيل الدور الأوّل، في الحديث عن تحالف ممكن مع هذا الحزب معبّرا في وقاحة فجّة عن لامبالاته بأصوات الألوف الّتي وثقت فيه والّتي وعدها مغلظا أن لا يفعل. وهو وإن تراجع عن ذلك فيما بعد، فإنّه لم يفعل سوى أن أثبت أنّه لا يبالي أن يحوّل مواقفه من النقيض إلى النقيض كلّما اقتضت مصلحته السياسيّة ذلك، معوّلا على ذاكرة المواطنين القصيرة وعلى خطاب ديماغوجي يريده أن يكون طريفا.
قائد السبسي لم يأخذ من بورقيبة إلّا استبطان الشخصيّة الأبويّة (والكثيرون مازالوا مولعين بها) والأساليب الأوتقراطيّة (ومازالت زلّاته تعبّر عنها، كما في قوله في 2011: نحكم وحدي وما يحكم معايا حد) وذلاقة اللسان (الّتي تتحوّل مع الباجي في كثير من الأحيان إلى رذالة) والتصرّف البراغماتي مع الأوضاع (الّذي يصبح انتهازيّة صريحة، كما في الموقف المذكور من النهضة). أمّا أعظم ما في بورقيبة، مشروعه التحديثي الهادف للرقيّ بالشعب، فلا مكان له عنده.
جمع قائد السبسي بعض الدساترة المكسورين والنقابيين القدامى واليساريين الانتهازيين والمستقلّين الحيارى فجعل منهم ما يشبه الحزب، وربط الكلّ بشخصه. ولو رحل عنهم، لتفرّقوا شيعا، ولا غضاضة من توقّع الأمر، فالرجل تجاوز أمل الحياة عند الولادة بخمسة عشر عاما، فكيف إن حدث ذلك وهو على كرسيّ الرئاسة؟ ستتمزّق الأغلبيّة النيابيّة (التي سيضنيها غياب خليفة للزعيم القائد الملهم الموحّد المعلّم الحكيم) وسيشغر منصب الرئاسة ليُفسح المجال للقوّة السياسيّة الثانية لتنال الغنيمة لقمة سائغة.

3- لماذا صوتي أبيض؟
صوتي أبيض لأنّ لا أحد يستحقّه…صوتي أمانة، ولا أحد منهما أهل لتحمّلها… صوتي أبيض لأنّي أرفض الاستقطاب… صوتي أبيض لأنّي أحلم بوطن لا أضطرّ فيه للاختيار بين السيّء والأسوأ، ولن أحقّق حلمي بالتصويت لأحد المتكالبين على السلطة…واجبي الأخلاقي يفرض عليّ أن لا أستجيب للعبة “الماكينات” اللّي تريد إقناع الناس أنّ التصويت لأحدهما واجب وطني وفعل منقذ للبلاد…السلبيّة الحقيقيّة هي “التصويت الأعمى” (تصويت القطيع المستعدّ أن يلقي نفسه في الهاوية استجابة للتعليمات !) و”التصويت الخائف” (أصوّت لفلان رغم أنّ فيه عيوب الدنيا لأنّ فلتان يخيفني !)… صوتي أبيض عن وعي وقناعة وليس تهرّبا…صوتي أبيض في نقاء الثلج لأنّي أرفض أن أدنّسه بالانحياز إلى أحدهما…
حمزة عمر
‫ ‬

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.