قيس القدرة الشرائية وفق المقاربة النقدية الصارمة لا يعكس الجوانب الحياتية للافراد

يعتقد الدكتور في الاقتصاد التنموي هادي صريب أنه تبعا لحالة التسابق والتلاحق بين الأجور والأسعار فان الحكومة أصبحت تفتقر الى هامش حقيقي للمناورة لتحسين القدرة الشرائية للمواطنين.

واعتبر صريب، في حديث أدلى به الى (وات)، أن وحدها مفاوضات ثلاثية الاطراف (العمال والاعراف والدولة)، تأخذ بعين الاعتبار الى جانب الأجور مسائل أخرى على غرار النفاذ الى السكن اللائق والحق في التعلم وفي الثقافة وفي العلاج وفي ترفيه ذي جودة …يمكن أن تشكل بداية الحل.

سؤال : أظهرت المؤشرات الأخيرة للمعهد الوطني للاحصاء تراجع نسبة الفقر في تونس، مما أدى الى جدل كبير. ما هو تحليلكم في هذا الشأن.

جواب : تمثل الاحصائيات أداة هامة للاحتساب في الاقتصاد وغالبا ما تشكل قاعدة يتم على أساسها اتخاذ القرارات السياسية. بما يعني أنه لايوجد فعليا احصائيات محايدة. وفيما يتعلق بالفقر المطلق أوالنسبي فان التعريفات، التي يرتكز اليها المعهد الوطني للاحصاء هي نفسها، التي تعمل بها المؤسسات الدولية.
ويتم قيس الفقر وفق وحدة نقدية (أقل من دولار واحد في اليوم للعائلة الواحدة). لذلك فان الفقر أولا هو نقدي اي يتم احتسابه بقيس القدرة الشرائية. وبالامكان معارضة هذه المقاربة لانه اذا نظرنا من زاوية أكثر قربا فاننا يمكن أن نجزم “ان نكون فقراء في المدينة” أصعب بكثير من أن “نكون فقراء في الارياف”.

ان أسرة فقيرة وتتمتع بالصحة، تختلف عن أسرة فقيرة يكون احد الابوين فيها مريضا والابن عاطلا عن العمل. ان أهم مساوىء هذه الطريقة في احتساب الفقر (الطريقة النقدية)، حجبها لجوانب اخرى من الوجود البشري. وبمعنى اخر فان القيس النقدي للفقر غير قادر على اظهار نوعية حياة الافراد . ولا تسمح هذه الطريقة أن تدلنا عن مدى نفاذ الأفراد الى خدمات مثل التعليم والعلاج. ولا تسمح بقيس العوز العاطفي، الذي هو اساسا نتاج ظروف مادية غير ملائمة.

ان الجدل، الذي سببته المؤشرات المتعلقة بالفقر في تونس، نتيجة أيضا الأدوات المعتمدة في قيس الظاهرة. ويرتكز المعهد في عمله في هذا الاطار الى سبر الاراء وليس الى المسوحات الشهرية الشاملة “للمحتاجين”، اللذين ينتفعون باعانات اجتماعية. كما لا يظهر المسح الخاص بالاستهلاك، الذي اجري بين سنتي 2015 و2016 اي تغيير مقارنة بسنة 2010.

مرة اخرى فان ذلك يعود الى الطرق المعتمدة (استبيان، ورشة…). ومن المؤسف أن يغفل المعهد الوطني للاحصاء في منهجية العمل المتبعة جانب “الهشاشة” في قيسه للفقر.

حسب رأيك ما هي الأسباب الحقيقية، التي تكمن وراء تدهور المقدرة الشرائية للتونسي؟

تعتبر هذه الظاهرة غير مرئية تقريبا وغير محسوسة لأنها تستغرق مدى طويلا. ويتعلق الامر بما يطلق عليه الاقتصاديون “بالوهم النقدي”، في الواقع تشير وثيقة الأجر الى تطور مستمر ومع مرور السنوات، يتحصل الجميع على زيادة في الأجر المباشر أو على مكافآت، ولكن في الحقيقة لا تتحسن المقدرة الشرائية بل تتقلص نظرا لارتفاع الأسعار في الجهة المقابلة وغالبا بنسق أسرع من نسق زيادة الأجور. ولا يعكس مؤشر الأسعار إلا بشكل غير تام التطور العام للأسعار.

ويفسر هذا “الوهم” بأننا لا نلاحظ ارتباط الأجور بالأسعار. ومن السهل التحقق من أن المقدرة الشرائية لعون الديوانة وضابط الشرطة والمربية قد تراجعت بشكل ملحوظ مقارنة بما كان عليه في سبيعينات أو تسعينات القرن الماضي.

ومن المؤسف جدا أن الإتحاد العام التونسي للشغل لم يتناول هذه المسألة الحاسمة ويعرف بتركيبة مؤشر الأسعار. ولكن باعتبار ان الناس لاينخدعوا، لاحظوا دائما الفرق بين المؤشر، الذي يصدره المعهد الوطني للإحصاء والأسعار الملصقة على المنتوجات فماذا اذا تعلق الامر بكلفة السكن والنقل والصحة والتعليم. انها حلقة مفرغة، من جهة، نقابات العمال تطالب بالترفيع في الأجور بحجة محاولة التقليص من التضخم ومن جهة أخرى، تعدل المؤسسات من الأسعار في اتجاه تصاعدي للحفاظ على نفس هوامش الربح نظرا لارتفاع كلفة التصنيع.

ماهي السياسات التي ينبغي انتهاجها للحد من هذا التدهور؟

يعتبر الموظفون، بدرجات متفاوتة، هم الخاسرون دائما اذ لا تتماشى الأجور مع الكلفة الحقيقية للمعيشة في ظل تسويق خدمات جديدة على غرار الصحة أو التعليم. على الأسر أن تواجه هذه النفقات الأساسية والتي كانت سابقا منخفضة أو ضئيلة جدا. اذ شهدت تكاليف التدريس والخدمات الصحية واسعار الأدوية ارتفاعا مشطا… في حين انها كانت منخفضة في العقود السابقة.
وانصب التركيز خلال الفترة الاخيرة على تحقيق “استراحة الاجور” كحل لهذا الاشكال. وسعت الحكومة الى جانب تجميد الأجور في القطاعين العمومي والخاص، الى التقليص من عدد الموظفين وقد تم في هذا السياق الافصاح عن 50 الف تقاعد مبكر اختياري في الفترة القادمة.
ويتعلق الأمر بعرقلة الحركة اللولبية أجر/أسعار، التي نعيشها منذ بعض الوقت، والتي ساهمت في اطار نمو باهت، في تعميق حالة عدم التوازن. ولذلك لا يمكن أن تكون الأجور (كما هي) المسؤولة عن أزمة المالية العمومية. في غياب النمو وطبعا الترفيع الالي للعائدات الجبائية فان كتلة أجور القطاع العمومي سجلت زيادة أسرع (من 11 مليار دينار في 2010 الى 14 مليار دينار في 2016) من عائدات الميزانية. نفس الشيء بالنسبة للقطاع الخاص وان لا نمتلك أي احصاءات اذ من الممكن أن كتلة الاجور شهدت تطورا في القيمة المضافة لتقلص بالتالي من هوامش ربح المؤسسات. من اين نستقي الاسباب المحتملة (من بين اخرى) لتقهقر الاستثمار الخاص.

وفي مواجهة تواصل السباق أجور/أسعار لا تمتلك الحكومة هوامش حقيقية للتحرك. واذا ما حاولت استعمال القوة فهي ستصطدم برفض النقابات واثارة الغضب الشعبي. ان التحد المطروح امامها مهم جدا في اطار يمكن لاقل شرارة فيه أن تتحول الى انفجار اجتماعي.
ويمكن للحكومة ايضا ان تطلق مفاوضات ثلاثية. ومن شأن التغيير الاخير على راس الاتحاد العام التونسي للشغل أن يكون ملائما لتوسيع المفاوضات. وأقصد من وراء ذلك التطرق الى مسائل أخرى الى جانب الأجور.
هل بامكان الشركاء الاجتماعيين ايجاد اتفاق حول تعديل الاجور، الذي يقابله احداث لمواطن الشغل. ادرك ان هذا النوع من التوافقات يصعب تحقيقه اعتبارا للتقاليد القديمة في مجال العلاقات الاجتماعية والمهنية. ولا تلتقي المنظمتين النقابية والاعراف الا للتفاوض بشان الترفيع في الاسعار ونادرا بشان اشياء اخرى.

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.