في دولة حكم الهواة : “يتحول الصحفي من ناقل خبر إلى موضوع خبر” ..

ظن آخر أباطرة روما نيرون أنه بإمكانه إعادة بناء مدينته عن طريق حرقها…ولكنه لم يتوقع أن تلتهم ألسنة اللهب الأخضر واليابس واستمرت النيران تشتعل لأسابيع فاحترق الآلاف من الأبرياء ظل نيرون بجبروته يترقب المشهد مستمتعا بصرخات الضحايا من جراء النيران التي كانت تلتهم أجسادهم دون رحمة. وللهروب من المسؤولية خوفا من المعارضة وغضب العامة بحث نيرون عن كبش فداء لتغطية جرمه إلى أن وجد ضالته ونسب الفعل للمسيحيين.. المشهد بقي طيلة عصور من الزمن عالقا في أذهان الباحثين و المؤرخين لتكون شاهدة على بشاعة وقبح حب السلطة وجبروتها… شاهد على تاريخ حاكم أحرق رعيته ليعطي لنفسه شرعية سياساته التهميشية ..

هي نفس الأساليب و الأدوات والسيناريوات التى تعيش على وقعها تونس فنتيجة لا مبالاة السلطة اختار شبابها اما الاحتراق نارا أو “الحرقة ” غرقا في عرض البحر فالمهم أن يظل الحاكم في عرشه يوزع أحيانا إحصائيات وأرقام ملغومة و كأنه ينثر البنزين على النار التي سرعان ما ترتفع ألسنتها وحال نفسها يتساءل هل من مزيد.. فحطبها شباب نخره اليأس و البطالة والتهميش غير أن الحاكم لم يستوعب درس الأولين وحافظ على سياسة الهروب إلى الأمام فقد اعتبرت السلطة أن عملية إضرام المصور الصحفي عبد الرزاق الرزقي النار في نفسه كانت بفعل فاعل وأنها عملية عرضية والتجأت عبر صفحاتها الاجتماعية و الموالين لها ينظرون لمنطق المؤامرة ويبحثون عن ذريعة وشماعة لالهاء الرأي العام وإخراج عملية حرق الزرقي لنفسه من مضمونها وسارعوا للنبش عن حياته الخاصة… وصموا الآذان عن اعتراف الرزقي في الفيديو الذي نشره قبل تنفيذه لوعيده كوسيلة احتجاجية لإيصال آنات وآهات أبناء جهته المفقرين المهمشين.. وعوض الوقوف على الأسباب و المسببات التي كانت وراء حرق الزرقي لنفسه يبحث الحاكم على حصان طروادة لتغطية فشل سياساته التنموية ونسي مهمته الأساسية اتجاه شعبه.

المرحوم عبد الرزاق الزرقي أضرم النار في جسده لينير ويعبد الطريق أمام زملائه الصحفيين و المراسلين ليحملهم مسؤولية جهته مهد الثورة أشعل المراسل الفتيل من جديد عسى أن تكون شرارة التصحيح، تصحيح مسار ثورة ركبها الساسة واستثمروها وتقاسموا الغنائم والتعويضات ووزعوا النضالات ووسموا الخونة ونصبوا اللصوص وكرسوا الجهويات وفرقوا أبناء الشعب الواحد وفي هذه المتاهة ضاع المواطن في أزقة المهاترات و التجاذبات و المشاحنات ذاك الصحفي المؤمن بدور الصحفي و الاعلام عموما كان أكثر وعيا كان يعلم أن التضحية هي السبيل الوحيد لقلب الموازنات فاختار طوعا أن يتحول من ناقل للخبر إلى موضوع الخبر بهدف لفة إنتباه الجميع سلطة ومعارضة منظمات وجمعيات بأن الصحفي انسان يحمل هموم وجراح شعبه يأن ويبكي لآلامه يتقاسم مع شباب وطنه المعاناة و التهميش و الحقرة.. فاختار أن يضع حدا لآلامه على طريقة البوعزيزي وينزاح إلى فيلق المحترقين..

رحل المصور الصحفي عبد الرزاق وبرحيله نثر الغبار على أشباه السياسيين و الزعماء كشف عيوب النظام وسياساته اللاوطنية وجعل من نفسه جسرا يعبره زملائه الصحفيون وأبناء جهته من أصحاب الشهائد المعطلين شريطة أن تتحسن الأوضاع فالحاكم لن يلتفة إلى الرعية الا اذا اهتز عرشه.. وقتها يخرج من جحره و يتخلى عن سياسة النعام لأن كرة الثلج في تونس بدأت تتدحرج من منحدرها بسرعة جنونية و رقعة الاحتجاجات اتسعت وأخذت طريقا تصاعديا ووسط حيرة السلطة وحالة البهتة و الارتباك فإن كل المؤشرات تفيد أن الأوضاع تدور عكس عقارب الحكومة التي اختفت وسط الضوضاء….

وبغض النظر عن الجدل الذي اثير عن الحادثة حول حرق الزرقي لنفسه أو احراقه والذي ستكشف حقيقته الابحاث القضائية فان هذا لا يجب ان يحول وجهة القضية الحقيقة فهناك صرخة أخيرة للزرقي تحمل مضمونا واضحا وهي صرخة الاحتجاج على الفقر والتهميش والبطالة صرخة شباب فقد الامل من سياسات الحكومات المتعاقبة صرخة شاب اراد زعزعة قطاعه ولفت الانظار لمعاناة ابناء السلطة الرابعة من جهة و منطقته من جهة أخرى لعل بجسده الذي احترق نارا ينير درب غيره من الشباب.
لقد مات نيرون ولم تمت روما مات رزوقة ولن يموت صوته فرفاقه وأصحاب السلطة الرابعة سيبقوا شاهدين أن جيلا من الصحفيين الشبان عاشوا في عصر حرق الصحفي لنفسه في عصر الشاهد عصر حكم الهواة.

الصحفي اسكندر العلواني

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.